د. راغب السرجاني
المشرف العام على الموقع
طبيب ومفكر إسلامي، وله اهتمام خاص بالتاريخ الإسلامي، رئيس مجلس إدارة مركز الحضارة للدراسات التاريخية بالقاهرة، صاحب فكرة موقع قصة الإسلام والمشرف عليه، صدر له حتى الآن 58 كتابًا في التاريخ والفكر الإسلامي.
ملخص المقال
ماذا يحدث في أول ساعة في القبر؟
حياة الإنسان في القبر ثابتة في السُّنَّة، وتسمى حياة البرزخ: قال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99، 100]
والبرزخ هو الحاجز أو الفاصل، وهو يفصل بين الحياة الدنيا، والحياة الآخرة بدءًا بيوم القيامة، أي بين موت الإنسان، وإعادة بعثه، وهو العلامة الأولى الصادقة لما بعده. لذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم كما روى الترمذي، وغيره عن عثمان: «إِنَّ القَبْرَ أَوَّلُ مَنْزِلٍ مِنْ مَنَازِلِ الآخِرَةِ، فَإِنْ نَجَا مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَيْسَرُ مِنْهُ، وَإِنْ لَمْ يَنْجُ مِنْهُ فَمَا بَعْدَهُ أَشَدُّ مِنْهُ».
ترتيب أحداث أول ساعة للمؤمن في القبر
ترتيب الأحداث في الساعة الأولى من حياتنا في القبر مهم جدًّا؛ أولًا لأنها أمر عقدي من أمور الغيب، وثانيًا لكي نعد لها العدَّة، ولهذا أسهب الرسول صلى الله عليه وسلم في شرحها.
أولًا: عند موت المؤمن يُخْرِج ملكُ الموت روحه من جسده، وتحملها ملائكة الرحمة، وتصعد بها إلى السماء الدنيا، ومنها تخترق السماوات جميعًا حتى السماء السابعة، وتبشَّر بالخير، ويأمر اللهُ ملائكته بكتابة اسم هذا العبد الصالح في عليين.
ثانيًا: في هذه الأثناء يكون أهل الميت مشغولين بتغسيل الميت، وتكفينه، ثم حمله إلى القبر. هذه المرحلة لا توجد روح في الجسد.
ثالثًا: ثم يُدْخِل المشيعون الجسد (بلا روح) إلى القبر، ويغلقونه، فتُعاد إليه روحه.
رابعًا: عند عودة الروح إلى الجسد تحدث ضمة القبر: هذه الضمة يتعرَّض لها كل البشر، وإن تفاوتت الدرجة. روى أحمد، وابن حبان، والبزار، والبيهقي، عَنْ عَائِشَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ لِلْقَبْرِ ضَغْطَةً، وَلَوْ كَانَ أَحَدٌ نَاجِيًا مِنْهَا نَجَا مِنْهَا سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ».
وهي ليست من عذاب القبر، ولكنها من جملة الآلام التي يتعرَّض لها الإنسان في حياته، وعند مماته، وتكون من المكفِّرات عن ذنوبه، والرافعات لدرجاته، مثلها مثل المرض.
خامسًا: يكون الميت شاعرًا بمن فوق قبره من المشيعين، ويكون مدركًا لأنه في قبره ينتظر الملكين، ويحتاج للحظات يستجمع فيها قواه، وهو في رهبة الامتحان مع كونه مبشَّرًا في رحلة روحه إلى السماء. روى مسلم عَنِ ابْنِ شِمَاسَةَ الْمَهْرِيِّ، قَالَ: "حَضَرْنَا عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ، وَهُوَ فِي سِيَاقَةِ الْمَوْتِ.. قال: فَإِذَا دَفَنْتُمُونِي فَشُنُّوا عَلَيَّ التُّرَابَ شَنًّا، ثُمَّ أَقِيمُوا حَوْلَ قَبْرِي قَدْرَ مَا تُنْحَرُ جَزُورٌ وَيُقْسَمُ لَحْمُهَا، حَتَّى أَسْتَأْنِسَ بِكُمْ، وَأَنْظُرَ مَاذَا أُرَاجِعُ بِهِ رُسُلَ رَبِّي". ويكون الميت بالحالة العقلية الكاملة التي كان عليها في الدنيا، فقد روى ابن حبان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ذَكَرَ فَتَّانَيِ الْقَبْرِ، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ: أَتُرَدُّ عَلَيْنَا عُقُولُنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «نَعَمْ، كَهَيْئَتِكُمُ الْيَوْمَ» قَالَ: فَبِفِيهِ الْحَجَرُ. أي يُسْكته عمر بالإجابة الحاسمة كأنه ألقمه حجرًا.
سادسًا: انصراف المشيعين: ففي البخاري ومسلم عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ".. وَذَهَبَ أَصْحَابُهُ حَتَّى إِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ..".
سابعًا: بعد انصراف المشيعين يأتي الملكان منكر ونكير لسؤال الميت؛ ففي الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِذَا قُبِرَ المَيِّتُ أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لِأَحَدِهِمَا: الْمُنْكَرُ، وَلِلْآخَرِ: النَّكِيرُ".
ثامنًا: يكون الميت نائمًا مغمض العينين:
· فيأمره الملكان بالجلوس، فيجلس، ويفتح عينيه،
· فيرى ضوءًا خافتًا لطيفًا مثل ضوء الشمس عند الغروب،
· ويرى الملكين، ولكنه لا يفزع، ولعل عدم الفزع هذا بسبب وجود حرَّاس حوله، فالميت يرى في هذه الحالة الصلاة عند رأسه، والصيام عن يمينه، والزكاة عن شماله، وفعل الخيرات من الصدقة والصلة والمعروف والإحسان إلى الناس عند رجليه، وبالتالي لا يصل إليه الملكان، (حلقة عن هذا الموضوع)
· ولكنها يأمرانه من بعيد أن يجيب على سؤالهما، ويكون عن النبي صلى الله عليه وسلم ،
· فيترك المؤمن الإجابة ويطلب أن يصلي، والصلاة هنا ليست تكليفًا، ولكنها راحة.
· يرفض الملكان؛ لأنهما جاءا في مهمة محددة يريدان تحقيقها، ".. فَيَقُولُونَ: إِنَّكَ سَتَفْعَلُ، أَخْبَرَنِي عَمَّا نَسْأَلُكُ عَنْهُ، أَرَأَيْتَكَ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي كَانَ فِيكُمْ مَا تَقُولُ فِيهِ، وَمَاذَا تَشَهَّدُ عَلَيْهِ؟ قَالَ: فَيَقُولُ: مُحَمَّدٌ، أَشْهَدُ أَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ، وَأَنَّهُ جَاءَ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وفي روايات أن الأسئلة ثلاثة: فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم..".
تاسعًا: هنا نجح المؤمن في الإجابة، وهو أعظم نجاح في كل حياته، وأعظم ثبات، وقد روى البخاري عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: "{يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ} [إبراهيم: 27]" قَالَ: "نَزَلَتْ فِي عَذَابِ الْقَبْرِ، فَيُقَالُ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، وَنَبِيِّي مُحَمَّدٌ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَفِي الْآخِرَةِ} [إبراهيم: 27]".
عاشرًا: عند هذه الإجابة الموفقة تحدث أمور مهمة متتالية في سرعة:
1. تصويب الملكين للإجابة: "فَيُقَالُ لَهُ: عَلَى ذَلِكَ حَيِيتَ وَعَلَى ذَلِكَ مِتَّ، وَعَلَى ذَلِكَ تُبْعَثُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ..".
2. تصويب رب العالمين للإجابة: "فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ".
3. توسيع القبر وإنارته: عند أحمد: "وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ"، وفي رواية للترمذي: "ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ".
4. يرى مقعده من الجنة، ومقعده من النار لو كان عاصيًا: «ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا، وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا، ثُمَّ يُفْتَحُ لَهُ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ النَّارِ، فَيُقَالُ لَهُ: هَذَا مَقْعَدُكَ مِنْهَا وَمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ فِيهَا لَوْ عَصَيْتَهُ، فَيَزْدَادُ غِبْطَةً وَسُرُورًا".
5. البشارة من العمل الصالح: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ"
6. الرغبة الأولى عند الميت في هذه اللحظة هي العودة للأهل لإبلاغهم بنجاحه: فَيَقُولُ: "أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ".
7. لا يجاب لهذا الطلب، فيرجو المؤمن عندها أن تقوم الساعة: "فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي، وَمَالِي".
8. هنا يـأمره الملكان بالنوم إلى يوم القيامة: فَيَقُولَانِ -كما في الترمذي عن أبي هريرة: نَمْ كَنَوْمَةِ العَرُوسِ الَّذِي لَا يُوقِظُهُ إِلَّا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ، (وفي رواية: اسكُن)، حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ.
9. تفارق الروح الجسد مرة أخرى، ولكن في هذه المرة إلى الجنة، ففي النسائي عن كعب بن مالك عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّمَا نَسَمَةُ الْمُؤْمِنِ طَائِرٌ فِي شَجَرِ الْجَنَّةِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى جَسَدِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»، وعندها يبلى الجسد في القبر.
10. تُنَعَّم الروح بعرض مقعدها في الجنة عليها صباحًا ومساءً؛ ففي البخاري عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالعَشِيِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ: هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ".
إخواني وأخواتي: {لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ} [الصافات: 61][1].
[1] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا
التعليقات
إرسال تعليقك